مجتمع

غياب تصنيف الرواية وأزمة النقد الروائي في العالم العربي

كيف صنفت الصناعة الغربية الروايات؟ ما الفرق بين الروايات الفائزة بالجوائز الكبرى والروايات الترفيهية، وأثر غياب التصنيف على النقد العربي، وكيف نُحسِّن من الواقع النقدي؟

future أغلفة عدد من الروايات العربية والإنجليزية

تطوّر تصنيف الروايات في الصناعة الغربية بحيث أصبحت تنقسم إلى فئات محددة لكل منها سماتها الخاصة. هذا التصنيف الثلاثي بين الأدب الرفيع والأدب التجاري والأدب الوسيط يوفر إطارًا واضحًا للناشرين والنقّاد والقرّاء لتقييم الأعمال الأدبية.

في المقابل، يفتقر المشهد الروائي العربي إلى مثل هذا التصنيف الواضح، الأمر الذي أفضى إلى إشكاليات في النقد الروائي واستقبال القرّاء للروايات.

وهنا أعرض سمات كل فئة روائية كما يُعرِّفها الغرب، ثم أوضح الفروق بين الروايات الفائزة بالجوائز الكبرى والروايات الترفيهية عبر أمثلة من الأدب العربي والإنجليزي، ونناقش تأثير غياب التصنيف الواضح على النقد العربي، مع تقديم مقترحات لتحسين الواقع النقدي عبر تبني تصنيفات أكثر دقة وموضوعية.

التصنيفات الروائية في الغرب: الأدب الرفيع والتجاري والوسيط

يقسم الناشرون في الغرب الروايات عادةً تحت ثلاث فئات رئيسية: الأدب الرفيع، والأدب التجاري، والأدب الوسيط، ويمكن تصور هذه الفئات على شكل طيف يتدرج من رفيع إلى تجاري، حيث يقع الوسيط في المنتصف كمنطقة تداخل.

الأدب الرفيع (Literary Fiction): يركّز هذا النوع على جودة الكتابة وجماليات الأسلوب والعمق الفكري. تكون متعة القراءة هنا نابعة من اللغة المبدعة والتصوير الأدبي البليغ أكثر من الأحداث السريعة).

غالبًا ما تتناول روايات الأدب الرفيع أسئلة فلسفية أو موضوعات إنسانية كبرى، وتُقدِّم تحليلًا للتجربة الإنسانية أكثر من مجرد حكاية (يُنظر إلى هذه الأعمال على أنها جادة وذات قيمة فنية عالية، وكثيرًا ما تحصد الجوائز المرموقة مثل البوليتزر والبوكر، أيضًا بأنها غالبًا أعمالًا مستقلة (ليست جزءًا من سلسلة) ولا تنتمي إلى صنف تجاري محدد كالخيال العلمي أو الرومانسية.

الأدب التجاري (Commercial Fiction): يُكتب هذا النوع بغرض إمتاع القارئ وإبقاءه متشوّقًا، فيُعطي الأولوية للسرد السريع والأحداث المشوّقة والشخصيات الجذابة والنهايات المُرضية، لا يعني ذلك بالضرورة ضعف الجودة الكتابية، بل إن كثيرًا من روايات الأدب التجاري تكون مكتوبة بإتقان، لكن التركيز يكون على الحبكة وتصاعدها أكثر من التركيب اللغوي أو الرمزية العميقة، يشتهر هذا النوع أيضًا باسم أدب التنوع أو Genre Fiction لأن معظم رواياته تندرج ضمن تصنيفات فرعية مثل الإثارة (Thriller Fiction) أو الجريمة (Crime Fiction) أو الخيال العلمي (Science Fiction) أو الفانتازيا (Fantasy fiction) أو الرومانس (Romance Fiction) وغيرها.

وغالبًا ما يكتب مؤلفو الأدب التجاري سلاسل من الروايات ضمن نفس النوع لتحقيق جمهور مستمر ومبيعات عالية. قد تحقق هذه الأعمال شعبية جماهيرية ضخمة وتتصدر قوائم الأكثر مبيعًا، لكن نادرًا ما تحظى باهتمام النقد الأدبي الجاد أو الجوائز الكبرى بنفس قدر الأدب الرفيع.

الأدب الوسيط (Upmarket Fiction): يمثل المنطقة الوسطى التي تمزج بين عمق الأدب الرفيع وجاذبية الأدب التجاري. تجمع روايات الأدب الوسيط جودة الأسلوب واللغة مع حبكة مشوقة قابلة للرواج التجاري.

بعبارة أخرى، قد تنتمي هذه الروايات إلى نوع معين (رومانسية، إثارة، دراما تاريخية، إلخ) لكن مع معالجة فنية راقية أو بناء سردي مبتكر يميزها عن القوالب التقليدية في الأدب التجاري).

مثال معروف في الأدب الإنجليزي هي رواية «Gone Girl» للكاتبة جيليان فلين، فهي في جوهرها رواية إثارة (تشويق وجريمة)، لكن أسلوب السرد المبتكر عبر منظورين لشخصيتين غير موثوقتين ارتقى بها إلى مصاف الأدب الوسيط، كثيرًا ما يستخدم الناشرون ومحررو الكتب مصطلح Upmarket للإشارة إلى قصة جذورها تجارية لكنها تتمتع بعناصر أدبية ترفع من مستواها وتجعلها قابلة أيضًا لاستحسان النقاد، باختصار، الأدب الوسيط يحاول تحقيق المعادلة الصعبة: رضى القارئ العادي والنقاد معًا.

وقد ناقش نقّاد غربيون هذه التصنيفات بوضوح منذ منتصف القرن العشرين؛ فمثلًا وصف الناقد الأمريكي دوايت ماكدونالد Dwight Macdonald في مقال شهير عام 1953 انتشار الأفلام الهوليوودية و«الروايات الهابطة» والمجلات الشعبية بأنه تجسيد لقيم سطحية مبتذلة ضمن ثقافة جماهيرية متجانسة. بل وتوقّع ماكدونالد أن تؤدي هيمنة الصيغ التجارية الترفيهية إلى اندثار الثقافة العليا الجادّة أمام زحف الثقافة الجماهيرية التي لا تحتاج إلى جهد حقيقي لفهمها، وحتى مفهوم الأدب الوسيط ذاته نال اهتمامًا نقديًا في الغرب؛ إذ سخرت الكاتبة فيرجينيا وولف Virginia Woolf مثلًا من وصفها بمتوسّطة الثقافة، وعدّت لـ«Middlebrow» «قراء الأدب الجماهيري» مجرد كائن طفيليّ باهت يتطفّل بين العالي والمنخفض مما يدل على رسوخ فكرة وجود مستويات أدبية متفاوتة في الذائقة الغربية.

هذه التصنيفات ليست قواعد صارمة، بل طيف مرن؛ فقليل من الروايات تقع بالكامل في طرف دون الآخر، ومعظمها تجمع عناصر من أكثر من فئة، لكن بالرغم من مرونتها، فقد أثبتت فائدتها في توجيه توقعات القرّاء وتقييم النقاد للأعمال وفق معايير عادلة لكل نوع.

الجوائز الأدبية مقابل الروايات الترفيهية: فروقات وأمثلة

من خلال هذا التصنيف، بات واضحًا أن الروايات الفائزة بالجوائز الكبرى تنتمي في الغالب إلى فئة الأدب الرفيع أو على الأقل تميل نحوها، بينما الروايات الترفيهية الأكثر مبيعًا غالبًا ما تندرج تحت الأدب التجاري. هذه الفروق تتجلّى بوضوح عند مقارنة أمثلة من الأدب العربي والإنجليزي:

في الأدب الإنجليزي: نجد أن الأعمال التي تنال استحسان النقاد وتتوج بالجوائز غالبًا ما تتمتع بعمق فكري وأساليب مبتكرة. على سبيل المثال، رواية «Beloved» لتوني موريسون الحائزة على جائزة بوليتزر، ورواية «The Remains of the Day» لكازوو إيشيغورو الحائزة على جائزة البوكر، كلتاهما تركزان على تطوير عميق للشخصيات وطرح أسئلة إنسانية مؤثرة، وهي سمات أدب رفيع. مثل هذه الروايات تُقدَّر لقيمتها الفنية وتُدرَّس أكاديميًا، حتى وإن كان إقبال الجمهور العام عليها متواضعًا مقارنة بالروايات التجارية.

في المقابل، حققت روايات الإثارة التجارية نجاحًا شعبيًا هائلًا دون أن تحظى بتقدير نقدي مماثل. على سبيل المثال، رواية «The Da Vinci Code» لدان براون تصدّرت قوائم الأفضل مبيعًا حول العالم وخلقت ظاهرة قرائية عام 2003، لكن النقاد الثقافيين صبّوا جام انتقاداتهم عليها متهمين إياها بالكتابة الضعيفة والحبكة السطحية واستغلال التاريخ بشكل غير دقيق، ولكن أحبها القرّاء لأنها رواية صفحاتها تُقلب بسرعة مليئة بالتشويق والألغاز، في حين نظر إليها النقاد نظرة دونيّة مقارنة بروايات أكثر عمقًا.

مثال آخر يجسّد الفارق بين الشعبي والنقدي هو سلسلة «هاري بوتر» لج.ك. رولينغ: فهذه السلسلة الخيالية حققت شعبية عالمية كاسحة وقرّبت ملايين اليافعين من عالم القراءة، لكنها - خصوصًا في بداياتها - اعتبرت لدى بعض النقاد مجرد أدب أطفال تجاري وليس أدبًا رفيعًا، قبل أن يتغير هذا التصور تدريجيًا مع ازدياد عمق السلسلة في أجزائها اللاحقة.

ويمكن القول إنه في الغرب قد يجتمع النجاح الجماهيري والنقدي في عمل واحد أحيانًا كما في حالة رواية «Life of Pi» ليان مارتل التي فازت بالبوكر وحققت مبيعات كبيرة، لكن هذه الحالات تظل الاستثناء وليست القاعدة.

في الأدب العربي: يظهر التباين كذلك بين الروايات التي تحظى بإشادة نقدية وتفوز بالجوائز، وتلك التي تحقق رواجًا جماهيريًا واسعًا. فالروايات المكرَّمة في الجوائز العربية الكبرى مثل الجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة بالبوكر العربية، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وغيرها، تميل إلى تناول موضوعات جادة تعكس الواقع الاجتماعي أو التاريخي بلغة أدبية راقية.

على سبيل المثال، رواية «تغريبه القافر» للكاتب زهران القاسمي (الفائزة بالبوكر العربية 2023) تناولت ثيمة الحياة والموت في المجتمع العُماني من خلال سرد شاعري عميق. ورواية «ساق البامبو» لسعود السنعوسي (الفائزة بالبوكر العربية 2013) عالجت قضية الهوية والاغتراب بأسلوب إنساني مؤثر، مما أكسبها استحسان النقاد إلى جانب شعبيتها.

أما نجيب محفوظ، الأديب العربي الوحيد الحاصل على نوبل، فتُعد أعماله مثل ثلاثية القاهرة وقبلها «أولاد حارتنا» مثالًا للأدب الرفيع الذي نال الجوائز وأعلى مراتب التقدير العالمي.

في المقابل، هناك روايات عربية حققت انتشارًا جماهيريًا هائلًا من خلال عناصر التشويق أو الرعب أو الرومانسية، ولكنها لم تحظَ بنفس القدر من الاهتمام النقدي. على سبيل المثال، تشهد معارض الكتب العربية طوابير طويلة لتوقيع روايات الكاتب السعودي أسامة المسلم التي تمزج الفانتازيا بالرعب في سرد مشوّق جذب فئة واسعة من الشباب.

أعماله كسلسلة «خوف» و«صخب الخسيف» كسرت أرقام المبيعات، إلا أنها قوبلت بتجاهل واضح من النقاد لفترة طويلة – لدرجة أن بعض النقاد في وطنه لم يسمعوا باسمه إلا بعد أن شاهدوا جماهيريته مصادفة، بل إن رواياته كما يصف حسين إسماعيل في مقاله «ماذا يخبرنا أسامة المسلم عن حراس الأدب الرفيع» بأنها وُضعت من قبل بعض النقاد في إطار الثقافة الدنيا وتم تبرير نجاحه الساحق بأنه قائم على عوالم قراءة موازية وليس الأدب الحقيقي.

مثال آخر هو روايات الإثارة والجريمة للكاتب المصري أحمد مراد مثل رواية «الفيل الأزرق» و«تراب الماس» وغيرها، التي حققت نجاحًا تجاريًا كبيرًا وتم تحويل بعضها إلى أفلام سينمائية ناجحة، لكنها نادرًا ما تناقَش في الندوات الأدبية الجادّة أو تدرس في المناهج الأكاديمية كأعمال ذات قيمة فنية عالية.

وينطبق الأمر نفسه على العديد من روايات الرومانسية الشبابية التي تلقى رواجًا، مثل روايات الرومانسية الشعرية، أو روايات الكاتبات الشابات في أدب الحب والتطوير الذاتي، حيث يُقبل عليها القرّاء بشغف بينما يتجاهلها النقاد الرسميون تقريبًا باعتبارها ترفيهية فقط.

كما أشار ممدوح فراج النابي في مقاله «الرواية البوليسية والأدب غير النظيف»: كثير من النصوص التي يُقبل عليها القراء، وتصنَّف على أنها من الأعمال الرائجة، يُقابلها إعراض وتجاهل من قبل النقد الرسمي، وأحيانًا تصل إلى السخرية والتحقير منها.

على سبيل المثال، وُصفت الروايات البوليسية روايات التحقيق والجريمة في بعض الأوساط النقدية العربية بأنها أدب غير نظيف وكتابات رخيصة ومبتذلة، مما يعكس نظرة دونية مسبقة تجاه أدب الجريمة لمجرد أنه يُصنَّف كأدب ترفيهي شعبي.

من جهة أخرى، توجد قلة من الأعمال العربية التي نجحت في الجمع بين الانتشار الجماهيري والتقدير النقدي، ويمكن اعتبارها نظيرًا للأدب الوسيط بالمعنى السابق. من أبرز الأمثلة رواية «عزازيل» ليوسف زيدان، فهي رواية تاريخية دينية كُتبت بأسلوب أدبي رفيع، حققت جماهيرية واسعة وفازت بالبوكر العربية 2009، امتازت «عزازيل» بأنها قدمت مادة مشوّقة (قصة راهب في صراع روحي في القرن الخامس الميلادي) بقالب لغوي وأدبي رفيع، فاستطاعت أن تجمع بين القاعدة الشعبية واستحسان النخبة.

وكذلك رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني التي صدرت أوائل الألفية حققت رواجًا هائلًا في مصر وخارجها وأثارت جدلًا ونقاشًا مستفيضًا حول قضايا الفساد الاجتماعي والسياسي التي طرحتها. هذا الجدل أحدث حراكًا نقديًا ومجتمعيًا وضع الرواية في موقع مميز؛ فهي من جهة رواية جماهيرية سهلة القراءة، ومن جهة أخرى تناولت بجرأة ووضوح قضايا طبقية وجنسية شائكة جعلتها محط اهتمام النقاد على الرغم من أن بعضهم لم يرَ فيها عمقًا فنيًا كبيرًا وانتقدها، هذه النماذج القليلة تبين إمكانية تحقق المعادلة في الأدب العربي، لكنها حالات نادرة إذا ما قورنت بكم الأعمال الترفيهية البحتة المنتشرة أو الأعمال النخبوية الخالصة.

أثر غياب التصنيف الواضح على النقد واستقبال الرواية عربيًا

في العالم العربي، أدى غياب تبنّي تصنيفات واضحة للروايات إلى ارتباك في منهجية النقد الروائي وإلى فجوة بين ما يقرؤه الجمهور وما يتناوله النقاد بالدراسة. يمكن تلخيص أبرز الآثار السلبية لعدم وجود هذا التصنيف في النقاط التالية:

قياس جميع الروايات بمقياس واحد (الأدب الرفيع): الكثير من النقاد العرب – سواء في الصحافة الثقافية أو الأوساط الأكاديمية – يميلون ضمنيًا إلى الاعتقاد بأن الرواية إما عمل رفيع جاد أو لا أدب على الإطلاق.

ففي ظل غياب إطار مفاهيمي للتمييز بين الأنواع، يُطبّق الناقد معايير النخبة الأدبية حتى عند تناوله عملًا ترفيهيًا. والنتيجة هي إقصاء للأعمال الشعبية من دائرة الاهتمام النقدي باعتبارها خارج التصنيف أوعديمة القيمة. كما أطلق عليه ممدوح فراج النابي مصطلح أدب الظل على هذه الكتابات الجماهيرية المزدهرة التي يتجاهلها النقد الرسمي، ويعاملونها بعداء أو تعالٍ واضح.

فبدلًا من أن يحاول الناقد فهم أسباب ظهورها وشعبيتها، يقوم برفضها كليًا والتقليل من شأنها دون دراستها، هذا الموقف شائع لدرجة أن المؤسسة النقدية العربية (أي لجان الجوائز، وأقسام الدراسات الأدبية في الجامعات، وصفحات النقد في الصحف) نادرًا ما تلتفت لإنتاج كُتّاب حققوا جماهيرية واسعة إن لم يكن في أعمالهم ما يوافق القوالب التقليدية الأدبية الجادة.

وبحكم هذه النظرة الإقصائية، لا يبذل النقاد جهدًا في تحليل هذه الظواهر أو حتى تفسير المعايير الأدبية التي يعتقدون أنها تفتقر لها تلك النصوص، وهكذا تستمر حلقة مفرغة: الناقد يعتبر الروايات التجارية تافهة لأنه يراها لا ترتقي لمستوى معاييره المثالية، في حين قد لا ترتقي تلك الأعمال فنيًا فعلاً لأن أصحابها يُهمَلون نقديًا فلا يجدون تحفيزًا لتحسين صنعة الكتابة.

فجوة بين القراء والنقاد

نتيجة لموقف النقد أعلاه، نشأ انفصال بين الذائقة الشعبية والذائقة النقدية في الأدب العربي. فهناك جمهور واسع يقرأ الروايات البوليسية والرومانسية والفانتازيا ويجد فيها المتعة والمعنى بطريقته، لكنه لا يجد صدى اهتماماته فيما يكتبه النقاد في الصحف أو ما يُدرَّس في مناهج الأدب. بالتالي ربما يشعر القارئ العادي أن النقد الأدبي نخبوي وبعيد عن واقعه القرائي.

وفي المقابل، ينظر بعض النقاد بقدر من الاستعلاء إلى الجمهور ويفسّرون رواج تلك الروايات الشعبية بأنه إقبال على التسلية الرخيصة فحسب من قبل قرّاء لا يميزون القيمة الأدبية، باعتبار هذه الكتب تؤدي وظيفة ترفيهية مؤقتة لا أكثر.

هذا التباعد في الفهم والتقدير بين النقاد والجمهور يؤدي إلى تضاؤل تأثير النقد؛ فإذا كان النقد لا يتناول سوى أعمال لا يقرؤها إلا قلة من المهتمين، فإنه يفقد دوره في توجيه الذوق العام أو إثراء فهم القرّاء. وكذلك يفقد القارئ ثقته بالنقد لأنه لا يعالج ما يهمه ويقرأه فعليًا.

تأخر الاعتراف بالمواهب الجديدة

عندما يظهر كاتب جديد يحقق نجاحًا جماهيريًا كبيرًا خارج الفضاء النقدي التقليدي، فإن غياب التصنيف قد يجعل النقاد يتجاهلون ظاهرة نجاحه لفترة طويلة. وقد حدث ذلك فعلًا مع أسامة المسلم كما أسلفنا، حيث لم يلتفت النقاد إلى جماهيريته حتى فرض نفسه بحضور كثيف في معارض خارجي وحين اضطروا للالتفات، جاءت ردود فعل بعضهم متأخرة ومرتبكة، تراوحت بين الاعتذار عن الجهل به إلى الامتعاض من شعبيته ومحاولة تأطيرها كحالة استثنائية تخص القراء لا قيمة لها نقديًا.

مثل هذا التأخر في الاحتفاء بالمواهب الجديدة يضر بالمشهد الأدبي ككل؛ إذ يشعر الكاتب الشاب الذي يحقق نجاحًا عند القراء بأنه مرفوض من المؤسسة إلى أن يثبت العكس عبر نيل جائزة أو اعتراف خارجي. بل إن بعض الأعمال العربية لم تنل اهتمامًا نقديًا محليًا إلا بعد أن حصدت تكريمًا دوليًا.

على سبيل المثال، رواية «الحالة الحرجة للمدعو ك» للروائي السعودي عزيز محمد، صدرت عام 2017 وحققت انتشارًا بين القراء، لكن كثيرًا من النقاد العرب لم يلتفتوا إليها إلا عندما وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورة لاحقة، أي أن الاعتراف جاء فقط بعد مباركة المؤسسة الجائزة، مما يكشف اعتماد النقاد أحيانًا على ختم جودة خارجي بدلًا من استكشاف قيمة العمل بشكل مستقل.

ضياع النقد الموضوعي للبَين بين

في ظل التصنيف الغائم، تضيع أيضًا إمكانية النقد الموضوعي لفئة الأدب الوسيط أو الأعمال التي تقع في المنطقة الرمادية. فإما أن يتم رفع عمل يتمتع بالشعبية إلى مصاف الأدب الرفيع، أو يتم ازدراءه بالكامل. ولا توجد منهجية واضحة للتعاطي مع الأعمال التي تحمل قدرًا من الجودة الفنية وتتوجه لشريحة واسعة في آن واحد.

بينما في الغرب يُخصص النقاد أحيانًا مقالات لتقييم رواية تشويق جيدة الصنع مقابل رواية تشويق رديئة، نادرًا ما نرى في العالم العربي نقدًا يقيّم رواية ضمن سياقها النوعي. فإما أن يُقال عنها ليست أدبًا حقيقيًا أو تُكال لها المديح المبالغ لو صادف أنها راقت للناقد رغم كونها ترفيهية.

هذا التباين في المعايير يربك الكاتب أيضًا: هل يكتب لإرضاء النقاد أم الجمهور؟ وهل تحسين الحبكة والتشويق يعتبر نقطة قوة، أم ينظر إليه بعض النقاد كتنازل تجاري؟ أسئلة كهذه تبقى بلا إجابة واضحة، مما قد يثني بعض الكتّاب عن التجريب والمزج بين النوعين خوفًا من عدم التقدير.

باختصار، أدى غياب التصنيف إلى انحياز نقدي نحو نوع واحد من السرد (الرفيع) وإهمال ما سواه. النتيجة هي خسارة مزدوجة: أعمال جماهيرية تبقى بلا تمحيص نقدي جاد يساعد في فرز غثّها من سمينها وتطويرها، وأعمال رفيعة قد تبالغ المؤسسة في تمجيدها رغم عزلتها عن الجمهور. وكلا الحالين لا يخدم ازدهار الفن الروائي ولا تواصل الأدب مع مجتمعه.

نحو نقد أكثر موضوعية: مقترحات للتصنيف وتحسين النقد الروائي

لمعالجة هذه الإشكالية وجسر الهوّة بين الإبداع الروائي والنقد العربي، ينبغي النظر في تبني تصنيفات أو مقاربات جديدة أكثر وضوحًا ومرونة. فيما يلي بعض المقترحات الكفيلة بتحسين النقد الروائي العربي عبر استلهام التجارب العالمية وتكييفها مع السياق المحلي:

إقرار إطار تصنيفي واضح في الخطاب النقدي العربي: على النقاد والباحثين محاولة توصيف المشهد الروائي بشكل أكثر تحديدًا، والاعتراف بوجود أطياف متنوعة من الإنتاج الروائي. يمكن استخدام مصطلحات مكافئة لما يوجد عالميًا، مثل أدب نخبة مقابل أدب جماهيري/ نوعي، أو حتى اعتماد المصطلحات الغربية نفسها (رفيع، تجاري، وسيط) بعد شرحها وتبيئتها.

الهدف ليس التقسيم الجامد، بل توفير لغة نقدية مشتركة لفهم غايات أي عمل روائي وتقييمه ضمن سياقه المناسب. عندما يُقدِّم الناقد عملًا ما للقارئ، سيكون مفيدًا أن يوضح ما إذا كان هذا العمل ينتمي لأدب تشويق جماهيري مثلًا أم أدب فلسفي تأملي، كي لا يُحبِطه بتوقعات في غير محلها أو يبخس حق العمل إن كان ناجحًا في نوعه.

تطوير منهجية نقدية مرنة تراعي السياق النوعي: ينبغي للنقاد تقييم الروايات وفق المعايير الملائمة لها. فالرواية الرومانسية الخفيفة الجيدة هي التي تنجح في إمتاع قارئها وتقديم قصة جذابة دون ابتذال، وهذا بحد ذاته معيار يمكن النقد أن يتناوله إيجابًا أو سلبًا.

أما مطالبة كل رواية بأن تكون تحفة أسلوبية عميقة فسيؤدي إلى تجاهل كثير من الأعمال التي قد تكون ناجحة ضمن غرضها. على النقد أن يتخلى عن ثنائية تحفة أو تفاهة، ويتبنى نظرة أكثر طيفية: فهناك درجات للجودة حتى داخل الأدب التجاري.

من المفيد مثلًا عقد مقارنات بين عملين شعبيين لبيان لماذا أحدهما أكثر إحكامًا من الآخر. هكذا نوع من النقد سيميز الكتابات الجيدة في كل فئة ويشجع صناعها، بدلًا من إلقاء الأحكام العامة بالرفض أو القبول بلا تحليل مفصل (وكما قال النابي: «ليس المطلوب إعطاء الشرعية للأعمال الجماهيرية بقدر ما هو تقييمها بإنصاف – فهذه صفة النقد الحقيقي، لا أن ندير ظهرنا لها»)

دمج الأعمال الشعبية في أجندة النقد: على المؤسسات النقدية (كالصحف والمجلات الثقافية وصفحات الكتب) إفراد مساحة منتظمة لمراجعة الأعمال الجماهيرية الرائجة وتحليل أسباب نجاحها أو جوانب ضعفها. ليس بالضرورة أن تكون كل مراجعة مادحة؛ يمكن وبكل مهنية انتقاد رواية جماهيرية رديئة الكتابة، لكن الأهم هو أخذها على محمل الجد كموضوع للنقاش.

هذا يمنح القرّاء شعورًا بأن اختياراتهم القرائية مرئية ومسموعة، وقد يثري ذلك ذائقتهم عندما يرون نقدًا يوجههم لما هو أفضل ضمن النوع الذي يستمتعون به. بعض المبادرات بدأت فعلًا تظهر، فمثلًا تصدر مواقع أدبية عربية مستقلة مقالات عن أدب الرعب وأدب الخيال العلمي العربي وتناقش تطوره، لكن المطلوب أوسع من مبادرات فردية – نحتاج إلى تحول في الذهنية النقدية السائدة لتقبّل هذه الأنواع.

تنويع الجوائز والمسابقات الأدبية: من الإجراءات التي قد تحفز تغيير النظرة تبنّي جوائز فرعية أو مستقلة مخصصة للأنواع الأدبية المختلفة. في العالم الغربي توجد جوائز مرموقة لكل نوع تقريبًا (جوائز هوغو ونيبولا للخيال العلمي، جائزة إدغار لأدب الجريمة، جائزة رومانس للكتب الرومانسية... إلخ)، والتي تمنح اعترافًا رسميًا بالجودة ضمن إطار النوع. يمكن التفكير إقليميًا بتخصيص جوائز أو فئات في المهرجانات الأدبية للرواية البوليسية أو الفانتازيا أو رواية الشباب.

مثل هذه الخطوة ستعطي الكتاب المجتهدين في هذه الأنماط حافزًا للتنافس على مستوى الجودة، وتجعل النقاد أيضًا مضطرين للتعاطي مع هذه الأعمال عند تقييمها للتحكيم. وقد بدأت بعض المبادرات في هذا الاتجاه كتخصيص جائزة للخيال العلمي في بعض المعارض، لكنها لا تزال خجولة وغير مستدامة.

إن إضفاء صفة التميز على أدب النوع عبر الجوائز سيؤثر إيجابًا على النظرة العامة ويشجع الكتاب على الارتقاء بأعمالهم ضمن مجالهم. وهنا أشير إلى جائزة القلم الذهبي كمثال لذلك.

الجمع بين الشعبية والقيمة في الأعمال الجديدة: على دور النشر والمحررين العرب أيضًا مسؤولية دعم الروايات التي تحاول المزج بين التشويق والعمق. فغالبًا ما يكون الناشر مترددًا في تبني عمل خارج التصنيف التقليدي: إما رواية تجارية سهلة أو رواية نخبوية صعبة.

لكن الأعمال الوسطية قد تكون حصانًا رابحًا إذا أُعطيت الفرصة؛ لأنها قادرة على الوصول لشريحة واسعة وأيضًا إرضاء الذائقة الجادة. عندما يرى القرّاء أعمالًا عربية تحقق المتعة والفائدة معًا، سيزداد إقبالهم عليها وعلى مناقشتها، وحينها سينعكس ذلك على النقد الذي سيجد مادة ثرية لتحليلها.

إن رفع مستوى السرد في الروايات الشعبية وتحبيب الروايات الجادة إلى الجمهور عبر عناصر سردية مشوّقة، كل ذلك يتطلب شجاعة في التجريب من الكتّاب ودعمًا من الناشرين. وعندما تنجح بعض هذه المحاولات، يجب على النقاد أن يسلطوا الضوء عليها كنماذج إيجابية تكسر ثنائية «للترفيه فقط» و«للنخبة فقط».

التربية الأدبية والتوعية بالتصنيفات: ربما يكون من المجدي أيضًا عبر الإعلام والندوات نشر ثقافة تصنيفية مبسطة لعموم القراء. ليس المطلوب إعطاء دروس أكاديمية، لكن توعية القارئ بطبيعة التنوع الأدبي قد تساعده في اختيار ما يناسبه وفهم لماذا بعض الروايات تفوز بالجوائز وأخرى لا، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن إحداها أفضل مطلقًا من الأخرى.

هذا الوعي قد ينشأ من خلال برامج ثقافية على التلفزيون أو لقاءات مع كُتّاب يناقشون فيها كتاباتهم (هل يكتب للمتعة، أم للفكرة، أم كلاهما). عندما يدرك الجمهور أن الترفيه لا يناقض القيمة، وأن العمل الأدبي يمكن أن يُقيَّم وفق أهدافه، فقد يتغير أيضًا تفاعلهم مع النقد والجوائز – فيتقبلون مثلًا أن الرواية الفلانية فازت لأنها تعالج قضية إنسانية بأسلوب رفيع رغم أنها قد لا تكون مسلية، وعلى العكس الرواية الجماهيرية الفلانية لم تفز لأنها بسيطة الموضوع رغم حبكته المشوقة.

في الختام، إن تبني تصنيف أوضح للروايات في العالم العربي من شأنه إغناء الحركة النقدية وإقامة حوار أكثر موضوعية وإنصافًا بين النصوص المختلفة. فلكل نوع أدبي قيمته ومعاييره الجمالية الخاصة. وإذا اعترف النقاد بذلك وتعاملوا مع كل رواية وفق إطارها الطبيعي، سنشهد دون شك حالة نقدية أكثر صحة وتوازنًا.

سيستفيد القارئ بحصوله على نقد يوجهه داخل كل لون أدبي، وسيستفيد الكاتب بتلقيه تقييمًا عادلًا يُبرز نقاط قوته وضعفه الحقيقية. أما الأدب نفسه فسيكون الرابح الأكبر؛ إذ سينمو ويتشعب في كل الاتجاهات وسط بيئة تقدّر التنوع، فيزداد ثراء الرواية العربية وقدرتها على ملامسة كافة شرائح المجتمع، من دون أن تفقد ملامح الفن والإبداع.

النقد الأدبي العربي مدعوٌ اليوم إلى مراجعة معاييره وأدواته ومواكبة المشهد الروائي المتغيّر، والكف عن حراسة بوابة وهمية لما يُسمى الأدب الرفيع واعتبار ما سواه دخيلًا. فالأدب بطبيعته مفتوح الرحاب، والنص الجيد جدير بالقراءة والنقد سواء جاءنا في حُلّة نخبوية أو جماهيرية. عندما نتبنى هذه النظرة الشمولية، سيجد كل عمل روائي مكانه المستحق في القراءة والتقييم. وحينها فقط سنودّع حالة الاستقطاب بين الترفيه والفن، لنرحّب بمشهد أدبي أكثر حيوية وشمولًا.

# أدب # الأدب العربي # الأدب العالمي # روايات

المستعمرة: اليوم ذاته للأبد
خاتم سليمي: ذاكرة الأماكن وعبء الانتماء
احتفالية موكب الموتى ويوم الظلال

مجتمع